فالله تعالى يمن على من يشاء، فبعض الناس إذا ذكر الله التذّ وارتاح وتنعم، وبعضهم أثقل شيء عليه هو الذكر؛ بحيث لو قلت له قل: سبحان الله إحدى عشرة مرة؛ فإنه
يجدها كالجبل نعوذ بالله من تلك الغفلة.
ثم ذكر هذا الكلام العجيب وهو: موقف بلال، فيقول: (كان بلال رضي الله عنه كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول: [أحد أحد -فيذكر الله- فإذا قالوا له قل: اللات والعزى، قال: لا أحسنه] ).
فلهذا يقول: إن المحب دائماً يشتغل بذكر من أحب، ويلتذ به، ولا يغفل عنه، ولا يهتم بغيره، وكلما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، حتى كان بعضهم يجري الذكر على لسانه في منامه: الله الله، أي: ذكر الله.
قال: (ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس، وتصير: لا إله إلا الله لهم كالماء البارد لأهل الدنيا) ولو تنظر في ديوان مجنون ليلى فإنك تجده يكثر من ليلى في كل قصيدة، وفي كل شعر؛ لأنها ملكت عليه قلبه، وكذلك أهل الدنيا يكثرون من ذكرها، وكذا من أشغل نفسه بالغناء والطرب، فمن عاش على شيء مات عليه.
فالمؤمنون الذين وفقهم الله تعالى يشتغلون بذكر الله؛ فيصير يجري على ألسنتهم، فأهم شيء عندهم رضاه، وأهم شيء عندهم طاعته، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما طعن وهو يصلي بالناس في المحراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل الناس أول ما أفاق فقال: [هل صلى الناس؟] سبحان الله! ولم يقل: هل داويتموني؟ وهل أتيتم بالطبيب؟ ولم ير منه ذلك الهلع الذي نجده في أنفسنا نحن الآن، فنعوذ بالله من ضعف الإيمان، وأما هو فأعظم ما في قلبه وأعظم همه: هي تقوى الله وعبادة الله. دخل عليه غلام يجر إزاره فقال له: [يا بني! ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]، فهو ينكر المنكر في تلك الحالة!
فمهما كان الإنسان مشغولاً؛ فإن الشغل أو الهم الذي هو أعظم شيء عنده يظل على لسانه، وعلى قلبه أينما ذهب، ولذلك انظر إلى من وفقه الله فإنه إذا سافر إلى أي بلد تجده يسأل: هل هذه القرية أو هذه المدينة فيها مسجد؟ وأين أقرب مسجد؟ وتجده يريد أن يستأجر بيتاً قريباً من المسجد، فأهم شيء عنده: ما يقربه من الله.
وأما الذين لا يريدون الله والدار الآخرة إذا سافر أحدهم فإنه يبحث عن مكان فيه فرجة، وفيه فسحة، وإن كان منحلاً أكثر من ذلك قال: هل فيه مرقص؟ وهل فيه خمر؟ نعوذ بالله.. وهكذا لأن قلبه متعلق بهذا الشيء، فكل إنسان يبحث عما قلبه معلق به.